الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **
في هذه السنة أصاب أهل الشام طاعون شديد حتى كادوا يفنون فلم يغز تلك السنة أحد فيما قيل. وفيها أصاب أهل الروم أهل أنطاكية وظفروا بهم. وفيها استعفى شريح بن الحارث عن القضاء فأعفاه الحجاج واستعمل على القضاء أبا بردة بن أبي موسى. وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان وكان على المدينة وكان على العراق والشرق كله الحجاج بن يوسف. وكان على قضاء البصرة موسى بن أنس. وفيها مات محمود بن الربيع وكنيته أبو إبراهيم وولد على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.وعبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود.
في هذه السنة أتى سيل بمكة فذهب بالحجاج وكان يحمل الإبل عليها الأحمال والرجال ما لأحد فيهم حيلة وغرقت بيوت مكة وبلغ السيل الركن فسمي ذلك العام الجحاف وفي هذه
في هذه السنة قطع المهلب نهر بلخ ونزل على كش وكان على مقدمته أبو الأدهم زياد بن عمرو الزماني في ثلاثة آلاف وهو في خمسة آلاف وكان أبو الأدهم يغني غناء ألفين في البأس والتدبير والنصيحة فأتى المهلب وهو نازل على كش ابن عم ملك الختل فدعاه إلى غزو الختل فوجه معه ابنه يزيد وكان اسم ملك الختل الشبل فنزل يزيد ونزل ابن عم الملك ناحية فبيته الشبل وأخذه فقتله وحصر يزيد قلعة الشبل فصالحوه على فدية حملت إليه ورجع يزيد عنهم ووجه المهلب ابنه حبيبًا فوافى صاحب بخارى في أربعين ألفًا فنزل جماعة من العدو قرية فسار إليهم حبيب في أربعة آلاف فقتلهم وأحرق القرية فسميت المحترقة ورجع حبيب إلى أبيه. وأقام المهلب بكش سنتين فقيل له: لو تقدمت إلى ما وراء ذلك. فقال: ليت حظي من هذه الغزاة سلامة هذا الجند وعودهم سالمين. ولما كان المهلب بكش أتاهم قوم من مضر فحبسهم بها فلما رجع أطلقهم فكتب إليه الحجاج: إن كنت أصبت بحبسهم فقد أخطأت بإطلاقهم وإن كنت أصبت بإطلاقهم فقد ظلمتهم إذ حبستهم. فكتب المهلب: خفتهم وحبستهم فلما أمنتهم خليتهم. وكان فيمن حبس وصالح المهلب أهل كش على فديةٍ يأخذها منهم وأتاه كتاب ابن الأشعث بخلع الحجاج ويدعوه إلى مساعدته فبعث بكتابه إلى الحجاج وأقام بكش.
قد ذكرنا حال المسلمين حين دخل بهم ابن أبي بكرة بلاد رتبيل واستأذن الحجاج عبد الملك في تسيير الجنود نحو رتبيل فأذن له عبد الملك في ذلك فأخذ الحجاج في تجهيز الجيش فجعل على أهل الكوفة عشرين ألفًا وعلى أهل البصرة عشرين ألفًا وجد في ذلك وأعطى الناس أعطياتهم كملًا وأنفق فيهم ألفي ألف سوى أعطياتهم وانجدهم بالخيل الرائقة والسلاح الكامل وأعطى كل رجل يوصف بشجاعة وغناء منهم عبيد بن أبي محجن الثقفي وغيره. فلما فرغ من أمر الجندين بعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وكان الحجاج ببغضه ويقول: ما رأيته قط إلا أردت قتله. وسمع الشعبي ذلك من الحجاج ذات يوم فأخبر عبد الرحمن به فقال: والله لأحاولن أن أزيل الحجاج عن سلطانه. فلما أراد الحجاج أن يبعث عبد الرحمن على ذلك الجيش أتاه إسماعيل بن الأشعث فقال له: لا تبعثه فوالله ما جاز جسر الفرات فرأى الوالٍ عليه طاعة وإني أخاف خلافه. فقال الحجاج: هو أهيب لي من أن يخالف أمري. وسيره على ذلك الجيش فسار بهم حتى قدم سجستان فجمع أهلها فخطبهم ثم قال: إن الحجاج ولاني ثغركم وأمرني بجهاد عدوكم الذي استباح بلادكم فإياكم أن يتخلف منكم أحد فتمسه العقوبة. فعسكروا مع الناس وتجهزوا وسار بأجمعهم وبلغ الخبر رتبيل فأرسل يعتذر ويبذل الخراج فلم يقبل منه وسار إليه ودخل بلاده وترك له رتبيل أرضًا أرضًا ورستاقًا رستاقًا وحصنًا حصنًا وعبد الرحمن يحوي ذلك وكلما حوى بلدًا بعث إليه عاملًا وجعل معه أعوانًا وجعل الأرصاد على العقاب والشعاب ووضع المسالح بكل مكان مخوفٍ حتى إذا جاز من أرضه أرضًا عظيمة وملأ الناس أيديهم من الغنائم العظيمة منع الناس من الوغول في أرض رتبيل وقال: نكتفي بما قد أصبناه العام من بلادهم حتى نجبيها ونعرفها ويجترئ المسلمون على طرقها وفي العام المقبل نأخذ ما وراءها إن شاء الله تعالى حتى نقاتلهم في آخر ذلك على كنوزهم وذراريهم وأقصى بلادهم حتى يهلكهم الله تعالى. ثم كتب إلى الحجاج بما فتح الله عليه وبما يريد أن يعمل. وقد قيل في إرسال عبد الرحمن غير ما ذكرنا وهو أن الحجاج كان قد ترك بكرمان هميان بن عدي السدوسي يكون بها مسلحة إن احتاج إليه عامل سجستان والسند فعصى هميان فبعث إليه الحجاج عبد الرحمن بن محمد فحاربه فانهزم هميان وأقام عبد الرحمن بموضعه. ثم إن عبيد الله بن أبي بكرة مات وكان عاملًا على سجستان فكتب الحجاج لعبد الرحمن عهده عليها وجهز إليه هذا الجيش فكان يسمى جيش الطواويس لحسنه.
وحج بالناس هذه السنة أبان بن عثمان وكان أمير المدينة. وكان على العراق والمشرق الحجاج وكان على خراسان المهلب من قبل الحجاج وكان على قضاء البصرة موسى بن أنس وعلى قضاء الكوفة أبو بردة. وفي هذه السنة مات أسلم مولى عمر بن الخطاب. ووفيها توفي أبو إدريس الخولاني. وفيها مات عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وقيل سنة أربع وقيل سنة خمس وقيل سنة ست وثمانين وقيل سنة تسعين. وفيها قتل معبد بن عبد الله بن عليم الجهني الذي يروي حديث الدباغ وهو أول من قال بالقدر في البصرة قتله الحجاج وقيل: قتله عبد الملك بن مروان بدمشق. وفيها توفي محمد بن علي بن أبي طالب وهو ابن الحنفية. وفيها توفي جنادة بن أبي أمية وله صحبة وكان على غزو البحر أيام معاوية كلها. وفيها مات السائب بن يزيد ابن أخت النمر وقيل: سنة ست وثمانين ولد على عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وفيها توفي سويد بن غفلة بفتح الغين المعجمة والفاء. وفيها توفي عبد الله بن أوفى وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة. وجبير بن نفير بن مالك الحضرمي أدرك الجاهلية وليس له صحبة.
في هذه السنة سير عبد الملك بن مروان ابنه عبيد الله ففتح قاليقلا ذكر مقتل بحير بن ورقاء وفي هذه السنة قتل بحير بن ورقاء الصريمي. وكان سبب قتله أنه لما قتل بكير بن وشاح وكلاهما تميميان بأمر أمية بن عبد الله بن خالد إياه بذلك كما تقدم ذكره قال عثمان بن رجاء بن جابر أحد بني عوف بن سعد من الأنباء يحرض بعض آل بكير من الأنباء والأنباء عدة بطون من تميم سموا بذلك: لعمري لقد أغضبت عينًا على القذى وبت بطينًا من رحيقٍ مروق وخليت ثأرًا طل واخترت نومةً ومن يشرب الصهباء بالوتر يسبق فقل لبحير نم ولا تخشى ثائرًا ببكر فعوف أهل شاءٍ حبلق دع الضأن يومًا قد سبقتم بوتركم وصرتم حديثًا بين غربٍ ومشرق وهبوا فلو أمسى بكير كعهده لغاداهم زحفًا بجأواء فيلق وقال أيضًا: فلو كان بكر بارزًا في أداته وذي العرش لم يقدم عليه بحير ففي الدهر إن أبقاني الدهر مطلب وفي الله طلاب بذاك جدير فبلغ بجحيرًا أن رهط بكير من الأبناء يتوعدونه فقال: توعدني الأبناء جهلًا كأنما يرون مقفرًا من بني كعب رفعت له كفي بعضبٍ مهندٍ حسام كلون الثلج ذي رونق عضب فتعاقد سبعة عشر رجلًا من بني عوف الطلب بدم بكير فخرج فتىً منهم يقال له شمردل من البادية حتى قدم خراسان فرأى بحيرًا واقفًا فحمل عليه فطعنه فصرعه وظن أنه قد قتله فقال الناس: خارجي وراكضهم فعثر به فرسه فسقط عنه فقتل. وخرج صعصعة بن حرب العوفي من البادية وقد باع غنيمات له ومضى إلى سجستان فجاور قرابة لبحير مدة وادعى إلى بني حنيفة من اليمامة وأطال مجالستهم حتى أنسوا به ثم قال لهم: إن لي بخراسان ميراثًا فاكتبوا لي إلى بحير كتابًا ليعينني على حقي. فكتبوا له وسار فقدم على بحير وهو مع المهلب في غزوته فلقي قومًا من بني عوف فأخبرهم أمره ولقي بحيرًا فأخبره أنه من بني حنيفة من أصحاب ابن أبي بكرة وأن له مالًا بسجستان وميراثًا بمرو وقدم ليبيعه ويعود إلى اليمامة. فأنزله بحير وأمر له بنفقة ووعده فقال صعصعة: أقيم عندك حتى يرجع الناس فأقام شهرًا يحضر معه باب المهلب وكان بحير قد حذر فلما أتاه صعصعة بكتاب أصحابه وذكر أنه من حنيفة آمنه. فجاء يومًا صعصة وبحير عند المهلب عليه قميص ورداء فقعد خلفه ودنا منه كأنه يكلمه فوجأه بخنجر معه في خاصرته فغيبه في جوفه ونادى: يا لثارات بكير! فاخذ وأتي به المهلب فقال له: بؤسًا لك! ما أدركت بثأرك وقتلت نفسك وما على بحير بأس. فقال: لقد طعنته طعنةً لو قسمت بين الناس لماتوا ولقد وجدت ريح بطنه في يدي. فحبسه فدخل عليه قوم من الأبناء فقبلوا رأسه. ومات بحير من الغد فقال صعصعة لما مات بحير: اصنعوا الآن ما شئتم أليس قد حلت نذور أبناء بني عوف وأدركت بثأري والله لقد أمكنني منه خاليًا غير مرة فكرهت أن أقتله سرًا. فقال المهلب: ما رأيت رجلًا أسخى نفسًا بالموت من هذا. وأمر بقتله فقتل. وعظم موته على المهلب وغضبت عوف والأبناء وقالوا: علام قتل صاحبنا وإنما أخذ بثأره فنازعهم مقاعس والبطون وكلهم بطون من تميم حتى خاف الناس أن يعظم الأمر فقال أهل الحجى: احملوا دم صعصعة واجعلوا دم بحير ببكير فودوا صعصعة فقال رجل من الأبناء يمدح صعصعة: لله در فتىً تجاوز همه دون العراق مفاوزًا وبحورا ما زال يدئب نفسه وركابه حتى تناول في الحروب بحيرا ذكر دخول الديلم قزوين وما كان منهم كانت قزوين ثغر المسلمين من ناحية ديلم فكانت العساكر لا تبرح مرابطة بها يتحارسون ليلًا ونهارًا فلما كان هذه السنة كان في جماعة من رابط بها محمد بن أبي سبرة الجعفي وكان فارسًا شجاعًا عظيم الغناء في حروبه فلما قدم قزوين رأى الناس يتحارسون فلا ينامون الليل فقال لهم: أتخافون أن يدخل عليكم العدو مدينتكم قالوا: نعم. قال: لقد أنصفوكم إن فعلوا افتحوا الأبواب ولا بأس عليكم ففتحوها. وبلغ ذلك الديلم فساروا إليهم وبيتوهم وهجموا إلى البلد وتصايح الناس فقال ابن أبي سبرة: أغلقوا أبواب المدينة علينا وعليهم فقد أنصفونا وقاتلوهم. فاغلقوا الأبواب وقاتلوهم وأبلى ابن أبي سبرة بلاءً عظيمًا وظفر بهم المسلمون فلم يفلت من الديلم أحد واشتهر اسمه بذلك ولم يعد الديلم بعدها يقدمون على مفارقة أرضهم. فصار محمد فارس ذلك الثغر المشار إليه وكان يدمن شرب الخمر وبقي كذلك إلى أيام عمر بن عبد العزيز فأمر بتسييره إلى زرارة وهي دار الفساق بالكوفة فسير إليها فأغارت الديلم ونالت من المسلمين وظهر الخلل بعده فكتبوا إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن أمير الكوفة يسألونه أن يرد عليهم ابن أبي سبرة فكتب بذلك إلى عمر فأذن له في عوده إلى الثغر فعاد إليه وحماه. ولمحمد أخ يقال له خثيمة بن عبد الرحمن وهو اسم أبي سبرة وكان من الفقهاء.
وفي هذه السنة خالف عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ومن معه من جند العراق على الحجاج وأقبلوا إليه لحربه وقيل: كان ذلك سنة اثنتين وثمانين. وكان سبب ذلك أن الحجاج لما بعث عبد الرحمن بن محمد على الجيش إلى بلاد رتبيل فدخلها وأخذ منها الغنائم والحصون كتب إلى الحجاج يعرفه ذلك وأن رأيه أن يتركوا التوغل في بلاد رتبيل حتى يعرفوا طريقها ويجبوا فلما أتى كتابه إلى الحجاج كتب جوابه: إن كتابك كتاب امرئ يحب الهدنة ويستريح إلى الموادعة قد صانع عدوًا قليلًا ذليلًا قد أصابوا من المسلمين جندًا كان بلاؤهم حسنًا وغناؤهم عظيمًا وغنك حيث تكف عن ذلك العدو بجندي وحدي لسخي النفس بمن أطيب من المسلمين فامض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم والهدم لحصونهم وقتل مقاتلتهم وسبي ذراريم ثم أردفه كتابًا آخر بنحو ذلك وفيه: أما بعد فمر من قبلك من المسلمين فليحرثوا وليقيموا بها فإنها دارهم حتى يفتحها الله عليهم. ثم كتب إليه ثالثًا بذلك ويقول له: إن مضيت لما أمرتك وإلا فأخوك إسحاق بن محمد أمير الناس. فدعا عبد الرحمن الناس وقال لهم: أيها الناس إني لكم ناصح ولصلاحكم محب ولكم في كل ما يحيط بكم نفعكم ناظر وقد كان رأيي فيما بيني وبين عدوي بما رضيه ذوو أحلامكم وأولو التجربة منكم وكتبت بذلك إلى أميركم الحجاج فأتاني كتابه يعجزني ويضعفني ويأمرني بتعجل الوغول بكم في أرض العدو وهي البلاد التي هلك فيها إخوانكم بالأمس وإنما أنا رجل منكم أمضي إذا مضيتم وآبى إذا أبيتم. فثار إليه الناس وقالوا: بل نأبى على عدو الله ولا نسمع له ولا نطيع. فكان أول من تكلم أبو لطفيل عامر بن واثلة الكناني وله صحبة فقال بعد حمد الله: أما بعد فإن الحجاج يرى بكم ما رأى القائل الأول: احمل عبدك على الفرس فإن هلك هلك وغن نجا فلك. إن الحجاج ما يبالي أن يخاطر بكم فيقحمكم بلايا كثيرة ويغشي اللهوب واللصوب فإن ظفرتم وغنمتم أكل البلاد وحاز المال وكان ذلك زيادة في سلطانه وإن ظفر عدوكم كنتم أنتم الأعداء البغضاء الذين لا يبالي عنتهم ولا يبقي عليهم. اخلعوا عدو الله الحجاج وبايعوا الأمير عبد الرحمن فإني أشهدكم أني أول خالع. فنادى الناس من كل جانب: فعلنا فعلنا قد خلعنا عدو الله. وقام عبد المؤمن بن شبث بن ربعي فقال: عباد الله! إنكم إن أطعتم الحجاج جعل هذه البلاد بلادكم ما بقيتم وجمركم تجمير فرعون الجنود فإنه بلغني أنه أول من جمر البعوث ولن تعاينوا الأحبة أو يموت أكثركم فيما أرى فبايعوا أميركم وانصرفوا إلى عدوكم الحجاج فانفوه عن بلادكم. فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه على خلع الحجاج ونفيه من أرض العراق وعلى النصرة له ولم يذكر عبد الملك. وجعل عبد الرحمن على بست عياض بن هميان الشيباني وعلى زرنج عبد الله بن عامر التميمي وصالح رتبيل على أن ابن الأشعث إن ظهر فلا خراج عليه أبدًا ما بقي وإن هزم فأراد منعه. ثم رجع إلى العراق فسار بين يديه أعشى همدان وهو يقول: شطت نوى من داره بالإيوان إيوان كسرى ذي القرى والريحان كذابها الماضي وكذاب ثان أمكن ربي من ثقيف همدان يومًا إلى الليل يسلي ما كان إنا سمونا للكفور الفتان حين طغى في الكفر بعد الإيمان بالسيد الغطريف عبد الرحمن سار بجمع كالدبا من قحطان ومن معدٍ قد أتى من عدنان بجحفلٍ جمٍ شديد الأركان فقل لحجاجٍ ولي الشيطان يثبت بجمع مذحجٍ وهمدان فإنهم ساقوه كأس الذيفان وملحقوه بقرى ابن مروان وجعل عبد الرحمن على مقدمته عطية بن عمرو العنبري وجعل على كرمان حريثة بن عمرو التميمي فلما بلغ فارس اجتمع الناس بعضهم إلى بعض وقالوا: إذا خلعنا الحجاج عامل عبد الملك فقد خلعنا عبد الملك. فاجتمعوا إلى عبد الرحمن فكان أول الناس خلع عبد الملك تيجان بن أبحر من تميم الله بن ثعلبة قام فال: أيها الناس إني خلعت أبا ذبان كخلعي قميصي. فخلعه الناس إلا قليلًا منهم وبايعوا بعد الرحمن وكانت بيعته: نبايع على كتاب الله وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى جهاد أهل الضلالة وخلعها وجهاد المحلين. فلما بلغ الحجاج خلعه كتب إلى عبد الملك بخبر عبد الرحمن وسأله أن يعجل بعثة الجنود إليه. ولما بلغ المهلب خبر عبد الرحمن كتب إلى الحجاج من خراسان: أما بعد فإن أهل العراق قد أقبلوا إليك وهم مثل السيل ليس يردهم شيء حتى ينتهي إلى قراره وإن لأهل العراق شدة في أول مخرجهم وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم فاتركهم حتى يسقطوا إلى أهاليهم ويشموا أولادهم ثم واقعهم عندها فإن الله ناصرك عليهم. فلما قرأ كتابه سبه وقال: ما إلي نظر وإنما النظر لابن عمه يعني عبد الرحمن. ولما وصل كتاب الحجاج إلى عبد الملك هاله ودعا خالد بن يزيد فأقرأه الكتاب فقال: يا أمير المؤمنين إن كان الحدث من سجستان فلا تخفه فإن كان من خراسان فإني أتخوفه. فجهز عبد الملك الجند إلى الحجاج فكانوا يصلون إلى الحجاج على البريد من مائة ومن خمسين وأقل وأكثر وكتب الحجاج تتصل بعبد الملك كل يوم بخبر عبد الرحمن. فسار الحجاج من البصرة ليلتقي عبد الرحمن فنزل تستر وقدم بين يديه مقدمة إلى دجيل فلقوا عنده خيلًا لعبد الرحمن فانهزم أصحاب الحجاج بعد قتال شديد وكان ذلك يوم الأضحى سنة إحدى وثمانين وقتل منهم جمع كثير. فلما أتى خبر الهزيمة إلى الحجاج رجع إلى البصرة وتبعه أصحاب عبد الرحمن فقتلوا منهم وأصابوا بعض أثقالهم وأقبل الحجاج حتى نزل الزاوية وجمع عنده الطعام وترك البصرة لأهل العراق ولما رجع نظر في كتاب المهلب فقال: لله دره أي صاحب حرب هو! وفرق في الناس مائة وخمسين ألف ألد فرهم. فأقبل عبد الرحمن حتى دخل البصرة فبايعه جميع أهلها قراؤها وكهولها مستبصرين في قتلا الحجاج ومن معه من أهل الشام. وكان السبب في سرعة إجابتهم إلى بيعته أن عمال الحجاج كتبوا إليه: إن الخراج قد أنكر وإن أهل الذمة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار. فكتب إلى البصرة وغيرها: إن من كان له أصل من قرية فليخرج إليها فاخرج الناس لتؤخذ منهم الجزية فجعلوا يبكون وينادون: يا محمداه ولا يدرون أين يذهبون وجعل قراء البصرة يبكون لما يرون فلما قدم ابن الأشعث عقيب ذلك بايعوه على حرب الحجاج وخلع عبد الملك. وخندق الحجاج على نفسه وخندق عبد الرحمن على البصرة وكان دخول عبد الرحمن البصرة في آخر ذي الحجة.
وحج بالناس هذه السنة سليمان بن عبد الملك وكان ممن حج أم الدرداء الصغرى. وفيها ولد ابن أبي ذئب. وكان العامل على المدينة أبان بن عثمان وعلى العراق والمشرق كله الحجاج وعلى خراسان المهلب وعلى قضاء الكوفة أبو بردة وعلى قضاء البصرة عبد الرحمن بن أذينة. وكانت سجستان وكرمان وفارس والبصرة بيد عبد الرحمن.
قيل: في المحرم من هذه السنة اقتتل عسكر الحجاج وعسكر عبد الرحمن بن الأشعث قتالًا شديدًا قتزاحفوا في المحرم عدة دفعات فلما كان ذات يوم في آخر المحرم اشتد قتالهم فانهزم أصحاب الحجاج حتى انتهوا إليه وقاتلوا على خنادقهم ثم إنهم تزاحفوا آخر يوم من المحرم فجال أصحاب الحجاج وتقوض صفهم فجثا الحجاج على ركبتيه وقال: لله در مصعب ما كان أكرمه حين نزل به ما نزل وعزم على أنه لا يفر. فحمل سفيان بن الأبرد الكلبي على الميمنة التي لعبد الرحمن فهزمها وانهزم أهل العراق وأقبلوا نحو الكوفة مع عبد الرحمن وقتل منهم خلق كثير منهم عقبة بن عبد الغافر الأزدي وجماعة من القراء قتلوا ربضة واحدة معه. ولما بلغ عبد الرحمن الكوفة تبعه أهل القوة وأصحاب الخيل من أهل البصرة واجتمع من بقي في البصرة مع عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فبايعوه فقاتل بهم الحجاج خمس ليالٍ أشد قتال رآه الناس ثم انصرف فلحق بابن الأشعث وبعه طائفة من أهل البصرة وقتل منهم طفيل بن عامر بن واثلة فقال أبوه يرثيه وهو من الصحابة: خلى طفيل علي الهم فانشعبا وهد ذلك ركني هدةً عجبا مهما نسيت فلا أنساه إذ حدقت به الأسنة مقتولًا ومنسلبا وأخطأتني المنايا لا تكالعني حتى كبرت ولن يتركن لي نسبا وكنت بعد طفيلٍ كالذي نضبت عنه السيول وغاض الماء فانقبضا وهي أبيات عدة. وهذه الوقعة تسمى يوم الزاوية. فأقام الحجاج أول صفر واستعمل على البصرة الحكم بن أيوب الثقفي. وسار عبد الرحمن إلى الكوفة وقد كان الحجاج استعمل عليها عند مسيره إلى البصرة عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عامر الحضرمي حليف بني أمية فقصده مطر بن ناجية اليربوعي فتحصن من ابن الحضرمي في القصر ووثب أهل الكوفة مع مطر فاخرج ابن الحضرمي ومن معه من أهل الشام وكانوا أربعة آلاف واستولى مطر على القصر واجتمع الناس وفرق فيهم مائتي درهم مائتي فلما وصل ابن الأشعث إلى الكوفة كان مطر بالقصر فخرج أهل الكوفة يستقبلونه ودخل الكوفة وقد سبق إليه همدان فكانوا حوله فأتى القصر فمنعه مطر بن ناجية ومعه جماعة من بني تميم فاصعد عبد الرحمن الناس في السلاليم إلى القصر فأخذوه فأتي عبد الرحمن بمطر بن ناجية فحبسه ثم أطلقه وصار معه. فلما استقر عبد الرحمن بالكوفة اجتمع إليه الناس وقصده أهل البصرة منهم عبد الرحمن بن لعباس بن ربيعة الهاشمي بعد قتاله الحجاج بالبصرة. وقتل الحجاج يوم الزاوية بعد الهزيمة أحد عشر ألفًا خدعهم بالأمان وأمر مناديًا فنادى: لا أمان لفلان بن فلان فسمى رجالًا فقال العامة: قد آمن الناس فحضروا عنده فأمر بهم فقتلوا.
وكانت وقعة دير الجماجم في شعبان من هذه السنة وقيل: كانت سنة ثلاث وثمانين. وكان سببها أن الحجاج سار من البصرة إلى الكوفة لقتال عبد الرحمن بن محمد فنزل دير قوة وخرج عبد الرحمن من الكوفة فنزل دير الجماجم. فقال الحجاج: إن عبد الرحمن نزل دير الجماجم ونزلت دير القرة أما تزجر الطير واجتمع إلى عبد الرحمن أهل الكوفة وأهل البصرة والقراء وأهل الثغور والمسالح بدير الجماجم فاجتمعوا على حرب الحجاج لبغضه وكانوا مائة ألف ممن يأخذ العطاء ومعهم مثلهم وجاءت الحجاج أيضًا أمداد من الشام قبل نزوله بدير قرة وخندق كل منهما على نفسه فكان الناس يقتلون كل يوم ولا يزال أحدهما يدني خندقه من الآخر. ثم إن عبد الملك وأهل الشام قالوا: إن كان يراضي أهل العراق بنزع الحجاج عنهم نزعناه فإن عزله أيسر من حربهم ونحقن بذلك الدماء. فبعث عبد الملك ابنه عبد الله وأخاه محمد بن مروان وكان محمد بأرض الموصل إلى الحجاج في جند كثيف وأمرهما أن يعرضا على أهل العراق عزل الحجاج وأن يجريا عليهم أعطياتهم كما يجرى على أهل الشام وأن ينزل عبد الرحمن بن محمد أي بلد شاء من بلد العراق فإذا نزله كان واليًا عليه ما دام حيًا وعبد الملك خليفةً فغن أجاب أهل العراق إلى ذلك عزلا الحجاج عنها وصار محمد بن مروان أمير العراق وإن أبى أهل العراق قبول ذلك فالحجاج أمي الجماعة ووالي القتال ومحمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك في طاعته. فلم يأت الحجاج أمر قط كان أشد عليه ولا أوجع لقلبه من ذلك فخاف أن يقبل أهل العراق عزله فيعزل عنهم فكتب إلى عبد الملك: والله لو أعطيت أهل العراق نزعي لم يلبثوا إلا قليلًا حتى يخالفوك ويسيروا إليك ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك أم تر ويبلغك وثوب أهل العراق مع الأشتر على ابن عفان وسؤالهم نزع سعيد بن العاص فلما نزعه لم تتم لهم السنة حتى ساروا إلى عثمان فقتلوه وإن الحديد بالحديد يفلح. فأبى عبد الملك إلا عرض عزله على أهل العراق. فلما اجتمع عبد الله ومحمد مع الحجاج خرج عبد الله بن عبد الملك وقال: يا أهل العراق أنا ابن أمير المؤمنين وهو يعطيكم كذا وكذا. وخرج محمد بن مروان وقال: أنا رسول أمير المؤمنين وهو يعرض عليكم كذا وكذا فذكر هذه الخصال. فقالوا: نرجع العشية فرجعوا واجتمع أهل العراق عند ابن الأشعث فقال لهم: قد أعطيتم أمرًا انتهازكم اليوم إياه فرصة وإنكم اليوم على النصف فإن كان اعتدوا عليكم بيوم الزاوية فأنتم تعتدون عليهم بيوم تستر فاقبلوا ما عرضوا عليكم وأنتم أعزاء أقوياء لقوم هم لكم هائبون وأنتم منتقصون فوالله لا زلتم عليهم جرآء وعندهم أعزاء أبدًا ما بقيتم إن أنتم قبلتم. فوثب الناس من كل جانب فقالوا: إن الله قد أهلكهم فأصبحوا في الضنك والمجاعة والقلة والذلة ونحن ذوو العدد الكثير والسعر الرخيص والمادة القريبة لا والله لا نقبل! وأعادوا خلعه ثانية. وكان أول من قام بخلعه بدير الجماجمع عبد الله بن ذؤاب السلمي وعمير بن تيجان وكان اجتماعهم على خلعه بالجماجم أجمع من خلعهم إياه بفارس. فقال عبد الله بن عبد الملك ومحمد بن مروان للحجاج: شأنك بعسكرك وجندك واعمل برأيك فإنا قد أمرنا أن نسمع لك ونطيع. فقال: قد قلت: إنه لا يراد بهذا الأمر غيركم فكانا يسلمان عليه بالإمرة ويسلم عليهما بالإمرة. فلما اجتمع أهل العراق بالجماجم على خلع عبد الملك قال عبد الرحمن: ألا إن بني مروان يعيرون بالزرقاء والله ما لهم نسب أصح منه إلا أن بني أبي العاص أعلاج من أهل صفورية فإن يكن هذا الأمر من قريش فمني تقويت بيضة قريش وإن يك في العرب فأنا ابن الأشعث ومد بها صوته يسمع الناس وبرزوا للقتال. فجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليم الكلبي وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمي وعلى خيله سفيان بن الأبرد الملبي وعلى رجاله عبد الله بن خبيب الحكمي وجعل عبد الرحمن بن محمد على ميمنته الحجاج بن حارثة الخثعمي وعلى ميسرته الأبرد بن قرة التميمي وعلى خيله عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة الهاشمي وعلى رجاله محمد بن سعد بن أبي وقاص وعلى مجنبته عبد الله بن رزام الحارثي وجعل على القراء جبلة بن زحر بن قيس الجعفي وفيهم سعيد بن جبير وعامر الشعبي وأبو البختري الطائي وعبد الرحمن بن أبي ليلى. ثم أخذوا يتزاحفون كل يوم ويقتتلون وأهل العراق تأتيهم موادهم من الكوفة وسادها وهم في خصب وأهل الشام في ضنك شديد قد غلت عليهم الأسعار وفقد عندهم اللحم كأنهم في حصار وهم على ذلك يغادون القتال ويراوحون. فلما كان اليوم الذي قتل فيه جبلة بن زحر بن قيس وكانت كتيبته تدعى القراء تحمل عليهم فلا يبرحون وكانوا قد عرفوا بذلك وكان فيهم كميل بن زياد وكان رجلًا ركينًا. فخرجوا ذات يوم كما كانوا يخرجون وعبأ الحجاج صفوفه وعبأ عبد الرحمن أصحابه وعبأ الحجاج لكتيبة القراء ثلاث كتائب وبعث عليها الجراح بن عبد الله الحكمي فأقبلوا نحوهم فحملوا على القراء ثلاث حملات كل كتيبة تحمل حملة فلم يبرحوا وصبروا.
|